mardi 29 juillet 2008

عن التجربة الكورية كمثال للعالم النامي

كوريا : المصنع الأول للسفن في العالم

تعتبر التجربة الكورية دليلا على خطإ الإعتقاد الشائع بحتمية التخلف الإقتصادي بالنسبة للشعوب المفتقدة لتجربة الثورة الصناعية (على غرار اوروبا و اليابان...). هذا العذر الذي تم إتخاذه لإيهام الشعوب بوجود تقسيم عالمي للعمل لم يمنع الكوريين من بعث شركات الكومبيوتر و الصناعات الثقيلة، بعد ان كانت توفر وجبت الارز بفضل المعونة الخارجية
في هذه المقالة الصغيرة، ساحاول تقديم تحليل هو خلاصة لأفكاري الخاصة و لمحاضرة الدكتور كيم دو هون من المعهد الكوري للتجارة و الإقتصاد الصناعي.
تعتبر كوريا من الدول والشعوب ذات التاريخ الحضاري المديد، فبعد فترة طويلة من الحضور الصيني والحروب المتوالية، ظهر الكيان الكوري في القرن الاول قبل المسيح كدولة مستقلة. على ان ذلك لم يمنع هذا الكيان من ان يكون متاثرا و تابعا للصين في سياسته الخارجية. يمكن تلخيص الهوية الكورية في :
ـالتأثير البوذي : تركز البوذية على ضرورة إحترام العائلة بوصفها الكيان الرئيسي في المجتمع، و على طاعة السلطة.
ـالتأثيرالخارجي : اولا عن طريق الجار و الكبير : الصين فقد كانت الصين دائماالاخ الأكبر والمأثر على النظام الكوري. ثانيا عن طريق الغزوات الخارجية واهمها
ـالغزو المغولي : وأدى إلى تداخل العرق الكوري و المنغولي
ـالغزوات اليابانية : في فترتين : حرب إيمجن (1592ـ1598) و الحرب الصينية اليابانية(1895) التي أدت إلى الإحتلال الياباني (1895ـ1945) . خلفت هذه الغزوات و جرائم الحرب المرافقة دمارا هائلا جعل من كوريا عند نهاية الحرب واحدة من أفقر دول العالم.
ـالحرب الكورية :(1950–1953) تندرج هذه الحرب في إطار الحرب الباردة. أدت إلى مقتل مليون ساكن على الأقل، و إلى إنفصال كوريا الشمالية (مع 90% من الثروات الطبيعية والقدرات الصناعية)، و إلى تحالف وثيق مع الولايات المتحدة

وهكذا فقد كانت كوريا في 1953 (أي في الفترة التي إستقلت فيها أغلب الدول النامية) دولة فقيرة (بدخل فردي لا يتجاوز 30 دولارا)، مع عمالة أمية في الأغلب، ولا تمتلك ثروات طبيعية ذات قيمة. وزاد الطين بلة إنتشار الفساد والمحسوبية والمصروفات الهائلة لبناء جيش وطني يقي البلد خطر الغزو الشيوعي مما قلص من تأثير المساعدات الأمريكية.
ما إن إنتهت الحرب الكورية، واجهت حكومة الرئيس سينجمان ري مشكلة توفير إنتاج إقتصادي كاف لإطعام شعب امي في اغلبيته. من أجل ذلك، إعتمدت كوريا على تصدير مواد ذات قيمة إضافية ضعيفة وعلى المعونة الأمريكية من أجل تأسيس بنية تحتية عصرية متكونة من مدارس، طرقات و شبكة إتصالات.
في عام 1960، قام الجنرال بارك شونغ هي بإنقلاب أطاح بالحكومة المدنية، وصار الرجل القوي في البلد. قام هذا الضابط الغامض (العضو السابق في الحزب الشيوعي وفي الجيش الياباني!) بوضع أسس نظام مدني مراقب من "المجلس الأعلى لإعادة الإعمار الوطنية" تحت قيادته. في هذا الإطار يمكن مقارنة نظام بارك شونغ هي بنظام أوليفر كروموال في إنجلترا (1650ـ1658)، أو نظام الجمهورية الرومانية القديمة حيث تعطى للشعب نسبة من السلطة كافية من أجل عدم تأجيج الفوضى (خاصة مع وجود الشيوعيين في الشمال!)
تحت قيادة بارك شونغ هي(1961ـ1979)، تم القيام بعديد التغييرات العميقة :
ـتطبيع العلاقات مع اليابان عام 1965. أدى ذلك إلى تدفق المعونات والتعويضات إلى كوريا.
ـالتخطيط : لعبت الدولة دورا رئيسيا في تحديد التوجهات الإقتصادية للبلد عبر تشجيع القطاعات الواعدة و المتكاملة مع القدرات الوطنية والسوق الخارجية. على أن تدخل الدولة في التوجهات الإقتصادية لم يتطور إلى تداخل السلطة و المال مثلما هو حال عديد دول العالم النامي. لقد إحترمت الدولة في عهد الجنرال بارك وخلفائه مبادئ الإقتصاد الليبرالي بصرامة و نزاهة فلم تتحول إلى كوبا باتيستا أو فيتنام نجو دينه ديام بل سخرت أجهزة الدولة ومن بينها الأجهزة البوليسية من أجل ضمان منافسة شريفة.
بفضل ظهور طبقة جديدة من العمال والمهندسين الأكفاء، فقد تمكنت كوريا من تأسيس أول نواة للصناعة الوطنية معتمدة على الدعم المالي الخارجي، الخبرة اليابانية و على عمال شديدي الإنضباط. ورافقت حكومة الجنرال بارك هذا النمو بسياسة تسلطية مضادة للنقابات (ظلت النقابات ممنوعة في كوريا حتى الثمانينات!)
أدت كل هذه العوامل إلى تحول هائل للبلد نحوإقتصاد يعتمد على تصدير سلع ذات قيمة مضافة عالية فإرتفع مستوى المعيشة كما تحسنت كفائة الجيش الوطني مما قلل من تبعيتها للولايات المتحدة. رغم ذلك تواصل إعتماد كوريا الجنوبية على الأجهزة المصدرة من اليابان حتى التسعينات، وتزامن ذلك مع الأزمة المالية التي عصفت بجنوب آسيا.
هذه الإنجازات العظيمة لا يمكن أن تحجب عنا هشاشة الإقتصاد الكوري المعتمد أساسا على التصدير وعلى شركائه : اليابان و الولايات المتحدة. لأجل ذلك قامت كوريا بمجهدات جبارة في بداية الألفية الثالثة من أجل تحقيق نوع من الإستقلال الإقتصادي وذلك عن طريق :
ـتنويع التعاملت التجارية مع الدول النامية، وخاصة الصين(تحولت العلاقات الصينيةـالكورية من عداء تام في فترة الحرب الكورية إلى تحالف إقتصادي تجسمه الإستثمارات الكورية في الصين و مساند لترشيح بان كي مون)
ـتشجيع الإعتماد على الشركات الوطنية من أجل التصنيع. يؤكد بعض المختصين الآن بأن كوريا قد إستقلت فعليا عن اليابان والولايات المتحدة من الناحية التكنولوجية

إن نظرة عميقة و مجردة من الإيديولوجيا يمكن أن تمنحنا عديد الدروس عن التجربة الإقتصادية الكورية :
ـإن النظام الليبرالي ليس مناقضا للتخطيط.
ـإن النظام الليبرالي هو بالمجمل نظام ناجح حتى في حالة بلد فقير، متخلف ولا يمتلك مواردا هامة ككوريا.على أنه يمكن أن يتحول لكابوس ليس له مثيل إذا لم يتم تطبيقه بنزاهة وصرامة : إن إنهيار كوبا وفيتنام لدليل أن الليبرالي الفاشل أسوأ من الشيوعي الفاشل.
ـإن النظام الديمقراطي ليس بالضرورة النظام الأمثل : لقد كان نظام سينجمان ري أكثر ديمقراطية من نظام خلفه الجنرال بارك، على أن فساد نظام ري، ووجود الخطر الشيوعي على الحدود يجعلنا نراهن على أن كوريا كانت ستلحق بمصير الصين و فيتنام لولا تدخل الجنرال بارك. لقد تمكن الجنرال بارك، حسب رأيي من تأسيس أفضل نظام ممكن لبلده في لحظة تاريخية حاسمة. على أن نهايته المأساوية على يد أقرب أصدقائه (أنظر إغتيال الجنرال بارك) تثبت أن لا وجود لنظرية صالحة لكل زمان ومكان، وأن كوريا قد شبت عن الطوق.
ويبقى السؤال المهم : هل يمكن لبلد مسلم أن يشب عن الطوق؟ هل يجب القضاء على التقاليد والإعتماد على طاغية حكيم من أجل بناء النهضة الوطنية في بلد مثل تونس أو مصر؟ أليست ديكتاتورية بارك دليلا على أن قادة الصين و روسيا هم على حق إذ يقودون بلدانا تموج بالإثنيات و الأديان؟